أمر إلهي لعمر بن الخطاب بأن يغفر للذين لا يرجون أيام الله
في حديث شريف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “بينما أنا نائم رأيتني على مكيب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها
ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له. ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً في الناس
يفري فريه ، حتى روى الناس وضربوا بطعن”. هكذا تحدث رسول الله عليه وسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد عرفه
النبي في أودية مكة ودروبها ، فتمنى أن يشرح الله صدره للإسلام وطلب ذلك من ربه بقوله : “ اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين ” ،
وكان عمر شجاعاً يرهب الرجال والأبطال ويصارعهم في سوق عكاظ فيقهرهم ، ولكنه كان ذا قلب خاشع متبتل في حجرات العبادة أيضاً
حتى قالت عنه أم أبان عتبة بن ربيعة “ إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه كأنه ينظر لربه بعينيه ” .
وكان عمر مشغولاً دائماً يرعى الإبل والغنم لأبيه وأهله الأقربين ، كما كان عاشقاً للخمر، ويرحل من قريش للتجارة في رحلتي
الشتاء والصيف ، ويقضي وقته في المفاخرة بسوق عكاظ بالكلمة والشعر والمصارعة ، ورغم ذلك فحين دق الإيمان بابه وجد
قلباً مترعاً بالرقة. إذ يروي قصة ذلك بقوله “كنت للإسلام مباعداً ، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها ، وكان لنا مجلس
يجتمع فيه رجال قريش ، فخرجت أريد جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحداً ، فقلت : لو أنني جئت فلاناً الخمار، وخرجت فلم أجده .
وقلت : لو أنني جئت الكعبة فطفت بها سبعاً أو سبعين . فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام ، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، واتخذ مكاناً بين الركنين ، الركن الأسود والركن اليماني ،
فقلت حين رأيته : والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول ، وقلت لنفسي أني لو دنوت أسمع منه لأروعنه ، فجئت
من قبل الحجب خلت تحتها ثيابها ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة ، فلما سمعت القرآن رق قلبي فبكيت ودخلني الإسلام ” .
كلمة الحق
قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنوات الإسلام الأولى داعياً إلى كلمة الحق ومحارباً في صفوف المسلمين وفاروقاً بجوار
الرسول صلى الله عليه وسلم . وعندما توفي أبو بكر الصديق تلقى عمر مبايعة المسلمين له بالخلافة ، وما كاد يصافح كل من
بالمسجد ويأخذ عليهم العهد والميثاق بالمبايعة ، حتى اعتلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم
ثم قال خطبته الشهيرة : أيها المؤمنون ثلاث دعوات إذا دعوت بها فآمنوا بها : اللهم إني ضعيف فقوني ، اللهم إني غليظ فلينّي ،
اللهم إني بخيل فَسخّني ” . ثم قال : “ لو علمت أن أحداً أقوى مني على هذا الأمر، لكان ضرب العنق أحب إليّ من هذه الولاية ، إن الله
ابتلاكم بي ، وابتلاني بكم بعد صاحبي ، فلا والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني ، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن
أهل الصدق والأمانة ، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلنّ بهم”.
ويفسر كثير من المجتهدين الأوائل آيتين من سورة الجاثية (14 و 15) بأنهما نزلتا في عمر بن الخطاب ، إذ يقول رب العزة والجلال
“ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون . من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم
ترجعون ” ، وذهب تفسير القرطبي إلى أن الآية نزلتا في عمروكذلك البغوي والطبري والواحدي . وقال ابن عباس في رواية عطاء :
عند نزول قوله تعالى “ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ” ، يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاصة ، فأراد بالذين
لا يرجون أيام الله : عبد الله بن أبيّ، وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها “ المريسيع ” فأرسل عبد الله غلامه
ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حسبك ؟ قال : غلام عمر قعد على فم البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي ،
وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه . قال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول “ سمّنْ كلبك يأكلْك ” فبلغ قوله عمر بن الخطاب
فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
جبريل
يقول الدكتور عبد الرحمن عميرة إن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت هذه الآية “ من ذا الذي يقرض
الله قرضاً حسناً ” قال يهودي بالمدينة يقال له قنحاص : أحتاج رب محمد ؟ فلما سمع بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه ، فجاء
جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ان ربك يقول لك “ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ”،
واعلم أن عمر قد اشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فلما جاء إليه قال
“ يا عمر ضع سيفك ”. قال : صدقت يا رسول الله، أشهد أنك أرسلت بالحق ، قال : فإن ربك عز وجل يقول “
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ”، فقال عمر : لا جرم والذي بعثك بالحق لا يرى الغضب في وجهي . وأوفى عمر
بعهده ووعده فلم يغضب حتى طعنه وهو يصلي “ أبو لؤلؤة ” في أثناء فترة خلافته ، ونقل عمر إلى بيته ، فلما ظن أنه الموت قال
يا عبد الله بن عمر، أنظر كم عليّ من الدين فحسبه فوجده ستة وثمانين ألف درهم ، فقال : عبد الله إن وفى لها مال ال عمر، فأدها
عني من أموالهم ، وإن لم تف أموالهم فاسأل فيها بني عدي بن كعب ، فإن لم تف من أموالهم فاسأل فيها قريشاً ولا تعدهم إلى
غيرهم ثم قال “ يا عبدالله اذهب إلى عائشة أم المؤمنين فقل لها يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم بأمير،
يقول تأذنين له أن يُدفن مع صاحبيه”. فأتاها ابن عمر فوجدها قاعدة تبكي فسلم عليها ثم قال : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع
صاحبيه ، فقالت : قد والله كنت أريده لنفسي ، ولأؤثرنه اليوم على نفسي . فلما جاء قال هذا عبد الله بن عمر فقال عمر: ارفعاني ،
فأسنده رجل إليه : ما لديك ؟ فقال : أذنت لك . قال عمر : ما كان شيء أهم إليّ من ذلك المضجع يا عبد الله بن عمر، فانظر اذا أنا
مت فاحملني على سريري ثم قف بي على الباب ، فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادخلني ، وإن لم تأذن فادفني في مقابر المسلمين .
وفاضت روحه إلى بارئها ، ودفن بجوار صاحبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر رضي الله عنه .
.