في ظل هيمنة الباطل وانتشار سطوته على الأمم والشعوب، مع ما يقابله من استضعافٍ للأمم المسلمة، وانحسار نورها وخفوته، تتطلع كل نفس مؤمنة إلى ذلك اليوم الأبلج، الذي ترتفع فيه راية التوحيد خفاقةً في أرجاء المعمورة، وتنتشر فيه أنوار الحق تضيء للعالم الذي أثقلته قيود الكفر والطغيان .
ولكي تتحقق هذه الأماني الغالية يجب علينا أن نتلمّس طريق النصر والخلاص من هذا الواقع الكئيب، ولا يكون ذلك إلا بالعودة إلى كتاب الله تعالى؛ لنأخذ منه السنن الكونية والنفسية لتحقيق الأمل المنشود؛ فلذلك: اخترنا في هذا الصدد آيةً عظيمةً من كتاب الله تعالى، تصور حال الفئة المؤمنة وقت الشدة والأزمات، وهي قوله تعالى: { متى نصر الله } (البقرة:214) لتكون منطلقاً للحديث عن هذه القضية المهمة .
ومن خلال فَهْمنا لذلك الدرس، نستطيع أن نجيب على تلك التساؤلات التي يرتفع صوتها بين الحين والآخر قائلةً: " أما آن للظلم أن يندحر ؟ أما آن للقيد أن ينكسر ؟ متى يأتي ذلك اليوم الذي يبزغ فيه فجر الإسلام، ويزول فيه ليل الظلم والطغيان ؟ " أسئلة كثيرة تدور في الأذهان، وجوابها أن الله تعالى قضى بحكمته أن تكون المواجهة بين الحق والباطل سنةً كونيةً من سنن الحياة منذ عهد أبينا آدم عليه السلام وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن العاقبة للمتقين، والغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، وفي هذا يقول الله تعالى: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } (المجادلة:21) وقال تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } (الصافات:171-173) وبشّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بذلك، فعن تميم الداري رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ الا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر ) رواه أحمد في " مسنده " و البيهقي في " سننه " .
وهذا النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين ليس مقتصراً على الدنيا فحسب، كما دلّ عليه قوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } (غافر:51) وقد يتساءل البعض فيقول: " قد عُلِمَ أن بعض الأنبياء قتله قومه، كيحيى و زكريا عليهما السلام، ومنهم من ترك قومه مهاجراً كإبراهيم عليه السلام، فهل يتعارض ذلك مع ما جاء في الآية السابقة ؟ " والجواب البديهي والسريع على ذلك أن نقول: لا تعارض في ذلك أبداً؛ وذلك لأن الانتصار لأولئك الأنبياء قد حصل بعد مماتهم، كما فعل الله بقتلة يحيى و زكريا عليهما السلام، فقد سلّط الله عليهم من أعدائهم من يهينهم ويسفك دمائهم، وأما النمرود فقد أخذه الله أخذ جبّار منتقم، وانتصر الله لنبيه إبراهيم عليه السلام، وتحقق بذلك موعود الله تبارك وتعالى، وفي " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقدآذنته بالحرب ) رواه البخاري ، وهكذا نصر الله أنبياءه على من خالفهم وكذبهم، وجعل كلمته سبحانه هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وأنجى الله تعالى المؤمنين من بين أظهرهم، ونصرهم على عدوهم .
على أن هذا النصر الظاهر قد يتأخر، ويستبطئه المؤمنون؛ لحكمة يريدها الله، ولأسباب لا يعقلها إلا من وهبه الله نظراً ثاقباً وفهماً عميقاً للأمور والأحداث، ومن تلك الأسباب كون الأمة الإسلامية غير مؤهلة لحمل راية الإسلام، فلو نالت النصر لفقدته سريعاً، لعدم قدرتها على حمايته طويلاً، وقد يبطيء النصر لأن الله سبحانه يريد من المؤمنين أن يزيدوا صلتهم بالله، ويجردوا نواياهم من كل ما يشوبها من حب للظهور أو طلبٍ لأطماع دنيوية أو مآرب شخصية، فإذا توافرت أسباب النصر عند الأمة كانت الأمة جديرة بنصر الله تعالى لها، ومن ناحية أخرى قد يتأخر النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الفئة المؤمنة لم تنكشف حقيقته للبسطاء من الناس، وبالتالي لم يقتنعوا بعدُ بفساده، وضرورة زواله، فيحتاج الأمر إلى مزيد من الوقت والجهد لكشف زيفه، وبيان بطلانه، كي يتقبّل الناس ذلك النصر، ويكون له أعظم الأثر في نفوسهم بعدما تبيّنت لهم حقيقة الباطل، وأثره السيء على دينهم ودنياهم. فإذا غلبه المؤمنون حينئذٍ لم يجد من يذرف الدموع عليه، ويأسف على زواله .
المصدر :