اسمها جميلة لأنها جميلة ومن أسماها جميلة زوجها الحبيب المحب الغيور عمر بن الخطاب الذي لم يطاوعه قلبه أن يناديها باسمها عاصية لما يحمل من معاني الرفض, لكن الجميلة لم ترحب بلقبها الجديد, حيث اعتبرته أشبه بأسماء الجواري والإماء اللاتي يطلقون عليهن أسماء التحسين والترغيب لرفع أسعارهن في سوق النخاسة, بينما العصيان والشموخ أليق بالحرائر, ومن هنا ذهبت بغضبتها تشكو الزوج لرسول الله الذي أجابها: أما علمت أن الله عز وجل عند لسان عمر وقلبه..
فانصاعت الجميلة لنداء زوج يحبها ويمجد حسنها في الرواح والغدو, وفي المقابل سكن حبه قلبها فلم تعد تتركه لحظة, فإذا ما أزمع الخروج للصلاة تمشي معه من فراشها للباب لتقبله عنده قبلة الوداع وتعود بعدها إلي فراشها طبقات بن سعد.. وبقي الحب عارما بين عاصية جميلة بنت ثابت بن قيس وبين الفاروق لتنجب له الابن عاصم.. و.. قد تكون غيرة ابن الخطاب الشديدة سببا في طلاق جميلة التي تزوجها وطلقها بعد إسلامه لتحمل صغيرها منه إلي بيت عائلتها ليشب الابن عاصم يتعثر في خطواته الأولي بين الأطفال, ويلمحه أبوه فيندفع لاحتضانه وحمله بعيدا فتدركه جدته الشموس بنت أبي عامر تنازعه إياه حتي ينتهيا إلي الخليفة أبي بكر رضي الله عنه الذي حكم بقوله لابن الخطاب: اتركه لها فهي حاضنته.. فرده إليها ولم يراجعه بكلمة..
ومثلما أضاعت الغيرة جميلة بعد الإسلام فقد سبق لعمر زواج حسناء قريش قريبة وطلاقها قبل الإسلام, وهي من جاء ذكرها في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال سعد بن عبادة آسفا: ما رأينا من نساء قريش ما كان يذكر من جمالهن فرد عليه السلام: هل رأيت بنات أبي أمية ابن المغيرة؟ هل رأيت قريبة؟!.. ولأن عمر سكت وسكت التاريخ من بعده عن ذكر مواقع زوجاته من قلبه وأثر كل منهن في حياته ومبلغ حظوتها عنده, إلا أن شروطه في المرأة ظلت مطبقة علي جميع نسائه كما استقاها التاريخ من سيرته وأقواله بأن تكون ودودا ولودا, وألا تعاب بالحمق فيسري حمقها في وليدها, وكان يستملح ما يستملحه كل عربي صميم فيروي عنه قوله: تزوجها سمراء, عينان, فإن فركتها( أبغضتها) فعليك صداقها,
وكان يوصي بزواج الأبكار( لأنهن أكثر حبا وأقل خبا( خداعا), وتوجس من زواج المسلمين ببنات الأعاجم, ليس لأنه حرام, وإنما: في نساء الأعاجم خلابة, فإن أقبلتم عليهن غلبنكم علي نسائكم, وإذا ما أحصينا زوجاته نجد الأولي زينب بنت مظعون بنت حبيب بن وهب ابن حذافة, والثانية أم كلثوم بنت جردول بن مالك التي تزوجها في مكة قبل إسلامه.. والثالثة عاصية جميلة بنت ثابت بن قيس, والرابعة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب, وقد حافظ عمر علي أواصر تلك المصاهرة الكريمة ولم ينشب خلاف مع زوجته إلا حين أرسلت أم كلثوم صندوقا فيه طيب إلي ملكة الروم دون علم عمر, فأهدت لها ملكة الروم عقدا فاخرا, وعندما علم عمر بالأمر دعا: الصلاة جامعة,
ثم قال في الناس: قولوا لي في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم, فقالوا: هولها, فأجابهم عمر ولكن الرسول رسول المسلمين, والبريد بريدهم, وأمر برد الهدية إلي بيت المال, ورد علي أم كلثوم قدر ما أنفقته.. الخامسة أم حكيم بنت الحارث بن المغيرة, والسادسة عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل التي أنجبت له عياض, وكانت علي قسط وافر من الجمال والبلاغة, وكانت زوجة لعبدالله بن أبي بكر الذي فتن بها حتي لم يعد يخرج للتجارة كعادته فمر عليه أبو بكر وهو علي سطح بيته يداعبها يوم جمعة فتوجه أبوبكر إلي الصلاة وعاد فوجد ابنه مازال يناغي عاتكة فسأله إن كان قد صلي الجمعة, فقال له عبدالله: أوصلي الناس؟! فأمره بتطليقها, فطلقها طلقة واحدة لكنه بقي متألما ينشد لوعة:
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تطلق
فأشفق أبوبكر علي ابنه وأمره بمراجعتها فلما عادت إليه وهب لها حديقة علي ألا تتزوج بعده, فلما استشهد وبقيت بلا زواج خطبها عمر فذكرت له أمر الحديقة فاستفتي علي ابن أبي طالب فأفتي: ردي الحديقة علي أهل عبدالله وتزوجي عمر.. ففعلت, لتظل إلي جواره حتي قتل فطال بكاؤها علي فراقه وتعددت قصائدها في رثائه.. ومن جواريه اللاتي أنجبن له لهية التي أنجبت له عبدالرحمن الأوسط, وفكيهة أم عبدالرحمن الأصغر وزينب.
عمر بن الخطاب جهوري الصوت, إذا تكلم أسمع, وإذا مشي أسرع, وإذا ضرب أوجع, طويلا يفوق الناس طولا كأنه راكب والناس يمشون, أصلع شديد الصلع, ضخما جسيما أبيض تعلوه حمرة, شاربه كثيف الشعر تعلو أطرافه شقره إذا شغله أمر فتله, رجلا يعمل بكلتا يديه أعسر أيسر, إذا مشي تتداني قدماه من سرعة المشي, شديد الوطء علي الأرض, سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله, مفرط الحس والفراسة والشعور عن البعد ــ التلباثي كما يسميه علماء النفس المعاصرون ــ حتي لقد رأي مقتله في الرؤيا علي يد رجل من العجم قبل الحادثة بيوم,
وأعجب منها قصة سارية المشهورة عندما خطب بالمدينة خطبة الجمعة ونادي فجأة: يا سارية بن حصن, الجبل.. الجبل فلم يفهم السامعون مراده فسأله علي رضي الله عنه فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا, وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه قاتلوا وظفروا وإن جاوزوه هلكوا, فخرج مني هذا الكلام, وجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر يقول يا سارية الجبل الجبل, فعدلنا إليه ففتح الله علينا.. عمر بن الخطاب بن نفيل بن العزي بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي شديد الغيرة علي المرأة
وفي هذا يقول رسول الله: إن الله غيور يحب الغيور, وإن عمر غيور ويروي عليه الصلاة والسلام: بينما أنا نائم رأيتني في الجنة, فإذا بقصر بفنائه جارية فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر, فذكرت غيرته فوليت مدبرا فبكي عمر قائلا: أعليك أغار يا رسول الله؟( رواه البخاري).
وحول جلال هيبته كان الشيطان نفسه يخشاه ويفر من طريقه حتي ليقول النبي عليه السلام: إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك( البخاري) وقالت أم المؤمنين عائشة: إني لأنظر إلي شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر.. مهيب المحضر حتي في حضرة النبي, الذي أذن يوما لجارية سوداء أن تفي بنذرها, بأن تضربن بدفها فرحا إن رده الله سالما, فأذن لها الرسول أن تضرب بالدف بين يديه, ودخل أبوبكر وهي تضرب, ثم دخل عثمان وهي تضرب, والصحابة مجتمعون,
فما أن دخل عمر, حتي وجمت الجارية وأسرعت إلي دفها تخفيه. ورغم ذلك كان عمر يحمل قلبا وافر اللين والرأفة مستشعرا صدق العواطف والمشاعر حتي أنه قال عن أشهر قصة حب في تاريخ العرب لم تنته بالوصال بل بموت العاشق الشاعر شهيد الغرام.. قال ابن الخطاب: لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما.. وكان إذا رأي غلاما فأعجبه سأل: هل له حرفة فإن قيل: لا, قال: سقط من عيني... ومن مبادئه ألا تظلم المرأة لضعفها, ولا تغبن لحيائها, ومن حقها ألا تكره علي زواج رجل قبيح, وقد خير زوجا عافته زوجته من رائحة أنفاسه بين خمسمائة درهم وطلاقها فقبل الزوج الدراهم وطلقها, وسمع امرأة من وراء بابها تنشد:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه وأرقــني ألا خــليل ألاعـــبه
فــوالله لولا الله لا شـيء غـــيره لزلزل من هذا السرير جوانبه
فذهب يسأل عن زوجها فعلم أنه خرج في غزوة طالت غيبته فيها, فأمر ألا تطال غبية الأزواج في الغزوات عن ثلاثة أشهر بعدما استشار ابنته حفصة: أي بنية كم صبر المرأة عن زوجها؟ قالت: تصبر الشهر والشهرين والثلاثة, وفي أربعة ينفد الصبر.. فكتب عمر بألا تحبس الجيوش أكثر من أربعة أشهر, وعندما عرف عدد الغائبين غيبة طويلة لم ينفقوا فيها علي زوجاتهم أمر أمراءهم أن يعرضوا عليهم إما الرجوع إلي نسائهم, وإما أن يبعثوا إليهن بنفقة كافية, وإما أن يطلقوا, وإذا طلقوا ألزموا ببعث نفقة ما مضي
الجزء الاول ..